في مشهدٍ يثير التساؤلات، اختار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب خلال جولته الشرق أوسطية عدم زيارة إسرائيل، مُفضّلاً زيارة دول الخليج كالمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات، في خطوةٍ بدت للكثيرين كـ"برود دبلوماسي" تجاه حليفٍ استراتيجي تقليدي.
وراء القرار الظاهر تكمن حكاية أكثر تعقيداً، تختلط فيها حسابات الاستراتيجية الكبرى، وتحولات التحالفات الإقليمية، وصراعات المصالح المتشابكة، وفقاً لتحليل الخبير الأمريكي إيلان بيرمان في تقريرٍ لموقع "الحرّة".
التطبيع السعودي-الإسرائيلي: الرهان الأمريكي يتعثّر
تُظهر الرؤية الأمريكية، بحسب بيرمان، تركيزاً واضحاً على اختراق استراتيجي في مسار التطبيع بين الرياض وتل أبيب، مع إبعاد القضية الفلسطينية عن صدارة المفاوضات.
قبل هجمات 7 أكتوبر 2023، كانت واشنطن تعتقد أن اتفاقاً سعودياً-إسرائيلياً وشيكاً، لكنه كان يفتقر إلى أي التزام جدي بحل الدولتين. إلا أن الهجوم الفلسطيني والرد الإسرائيلي العنيف في غزّة غيّرا المعادلة، حيث بدأت السعودية تشترط أي اتفاقٍ مستقبلي بتعهدٍ إسرائيلي صريح بإقامة دولة فلسطينية – شرطٌ يبدو مستحيلاً في ظل حكومة نتنياهو اليمينية والرفض الشعبي الإسرائيلي المتصاعد لفكرة التقسيم.
ليس مجرد "صدفة دبلوماسية"
قرار ترامب بعدم الزيارة ليس مجرد "صدفة دبلوماسية"، بل يعكس تحولاً في بؤرة الاهتمام الأمريكي. فإسرائيل – كما يشرح بيرمان – لم تعد تمتلك ما يُمكن أن تحققه واشنطن عبر زيارةٍ رمزية، بينما تتركز الملفات الساخنة (التطبيع، الملف النووي الإيراني، أزمة اليمن) في عواصم الخليج.
وأضاف: التجاهل الأمريكي يُلامس شقوقاً أعمق في الشراكة الاستراتيجية بين البلدين: فمن الخلاف حول التعامل مع إيران (مفاوضات أم ضربات عسكرية؟)، إلى امتعاض إسرائيل من الاتفاق الأمريكي مع الحوثيين في اليمن، وصولاً إلى صفقة تبادل الأسرى مع حماس التي أبرمها ترامب دون تنسيقٍ كامل مع تل أبيب، ما يشير إلى أن "الأمن القومي الأمريكي بدأ ينفصل عن نظيره الإسرائيلي في بعض الملفات"، كما يصف بيرمان، في سابقةٍ تُهدد طبيعة التحالف التاريخي.
إسرائيل في دوامة الاستنزاف.. أزمات داخلية وانكشاف دولي
من الداخل الإسرائيلي، يرسم بيرمان صورةً قاتمة: أهداف الحرب في غزّة غير واضحة، الرهائن ما زالوا في الأسر، والخطة العسكرية الجديدة تُثقل كاهل الاقتصاد والمجتمع مع استدعاء آلاف الاحتياطيين، يضاف إلى ذلك تراجع الدعم الدولي، وتصاعد الانقسامات الداخلية، ما يُضعف قدرة إسرائيل على فرض شروطها في أي مفاوضاتٍ مستقبلية مع الفلسطينيين أو العرب. حتى الدعم الأمريكي – رغم تصريحات السفير هاكابي المطمئنة – لم يعد "شيكاً على بياض"، بل تحوّل إلى دعمٍ مشروطٍ بضغوطٍ خفية.
التحالف في مرمى الاختبار.. شراكةٌ تبحث عن معنى جديد
رغم كل التحديات، يرى بيرمان أن أسس العلاقة الأمريكية الإسرائيلية ما تزال قوية، مدعومةً بالمصالح الأمنية المتشابكة والقيم السياسية المشتركة. لكن "المساحة الرمادية" بين البلدين تتسع، وتعكس اختلافاً متزايداً في الأولويات والتكتيكات. فبينما تعيد واشنطن تشكيل تحالفاتها لمواجهة إيران وتعزيز التوازنات الجديدة، تبحث إسرائيل عن مخرجٍ من أزمتها الوجودية مع الفلسطينيين وانعزالها الإقليمي.
قرار ترامب بتجاوز إسرائيل قد يكون مجرد غيضٍ من فيض تحوّلٍ استراتيجي أعمق، حيث لم تعد تل أبيب المحور الوحيد للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، بل أصبحت جزءاً من لوحةٍ أكبر تُعيد رسمها رياح التطبيع والصراعات الجديدة. هنا، يبقى السؤال الأكبر: هل تستطيع إسرائيل التكيف مع هذه التحولات دون أن تفقد مكانتها كـ"الحليف الأقرب" لواشنطن؟ الإجابة قد تُحددها الأشهر القادمة، في اختبارٍ مفتوحٍ لمرونة هذه الشراكة الاستثنائية.
السفير الأمريكي في تل أبيب ومحاولات تهدئة
في محاولةٍ لاحتواء الانطباع السلبي، أكد السفير الأمريكي مايك هاكابي أن عدم زيارة ترامب لا تعكس تدهوراً في العلاقات، مُشيراً إلى أن الجولة الحالية تركّز على "الفرص الاقتصادية". وأوضح في حديثٍ لقناة 12 الإسرائيلية: "ترامب يحب إسرائيل، وقدّم لها خلال رئاسته أكثر من أي رئيسٍ أمريكي سابق". لكن هذه التصريحات تبدو كـ"مسكّن مؤقت" في ظل غياب إنجازات ملموسة تُعيد الثقة المفقودة.