افتتح الرئيس الأمريكي العائد إلى البيت الأبيض في يناير الماضي، دونالد ترامب، فصلًا جديدًا من معاركه المفتوحة مع الإعلام. فقد شن هجومًا لاذعًا على أحد مراسلي القنوات الإخبارية الكبرى خلال مؤتمر صحفي، متهمًا إياه بالتحيز والكذب وتضليل الرأي العام، وفقا لمجلة ذا كونفسيشن.
ولم يكتف ترامب بالهجوم اللفظي، وقال لمراسل شبكة إيه بي سي إنه صحفي يسئ لبلاده، بل لوّح باستخدام سلطته التنفيذية عبر وزارة العدل لملاحقة وسائل الإعلام التي، على حد تعبيره، "تتجاوز حدود النقد المشروع وتتحول إلى أدوات تآمر وتشويه".
وأثار هذا التصريح موجة واسعة من ردود الفعل، حيث اعتبره خبراء الإعلام تهديدًا مباشرًا لحرية الصحافة في بلد طالما قدم نفسه للعالم بوصفه حاميًا لقيم الديمقراطية، وكان المراسل جون ليونز قد سأل الرئيس الأمريكي عن كم زادت ثروته منذ عودته إلى البيت الأبيض؟ وعن مدى ملاءمة أن يكون رئيس في منصبه منشغلا في نشاطات تجارية؟
وواصل ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض تكثيف نبرته العدائية تجاه وسائل الإعلام التقليدية، مؤكدًا في خطاباته أنها خصم سياسي لا يقل خطرًا عن خصومه من الحزب الديمقراطي. واعتاد أن يصف الصحافة بأنها "عدوة الشعب"، لكنه اليوم أعاد هذا الوصف في سياق أكثر صدامية بعد أن أصبح يمتلك زمام السلطة التنفيذية من جديد. بهذا الخطاب يسعى الرئيس إلى حشد قاعدته الشعبية المخلصة، وإقناعها بأن الإعلام جزء من مؤامرة كبرى تستهدف إضعافه وإفشال مشروعه السياسي.
وأدرك المراقبون أن هذه الاستراتيجية ليست طارئة، لكنها اكتسبت زخمًا جديدًا بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة. فترامب يقدم نفسه اليوم ليس كشخصية ملاحَقة من الإعلام، بل كرئيس يمارس سلطاته ويهدد بتوظيف أجهزة الدولة في مواجهة الصحافة. وهو ما يجعل المعركة أكثر خطورة من مراحل سابقة، إذ يتحول الخطاب إلى ممارسة قابلة للتنفيذ، خصوصًا أن وزارة العدل تحت إدارته قد تتعرض لضغوط سياسية لإعادة تعريف حدود العلاقة بين الدولة وحرية الإعلام.
ورأى محللون أن تصعيد ترامب لا يستهدف فقط المؤسسات الإعلامية الكبرى، بل يمتد ليشكل رسالة إلى جميع الأصوات الناقدة، مفادها أن البيت الأبيض لن يتسامح مع من يعتبرهم "خصومًا مقنعين". وفي المقابل، اعتبر ناشطون أن مثل هذا التوجه يعكس رغبة في تقويض التوازنات التقليدية التي منعت لعقود طويلة أي رئيس من المساس بقدسية التعديل الأول في الدستور الأمريكي الذي يكفل حرية التعبير والصحافة.
قضايا ترامب ضد وسائل الإعلام
لم يقتصر الأمر على الخطابات النارية، فقد سبق لترامب أن لجأ إلى ساحات القضاء ضد عدد من الصحف والقنوات البارزة، من بينها صحف وطنية واسعة الانتشار وقنوات تلفزيونية لها حضور عالمي. اتهمها جميعًا بالتشهير المتعمد وتضليل الجمهور عبر نشر تقارير تربطه بملفات فساد مالي أو تدخلات خارجية. وبرغم أن أغلب هذه القضايا لم تؤد إلى إدانات حقيقية، إلا أنها عكست إصرار ترامب على خوض معركة قضائية طويلة الأمد مع الإعلام، مستخدمًا القضاء أحيانًا كورقة ضغط سياسية ورمزية في آن واحد.
عندما عاد إلى البيت الأبيض مطلع هذا العام، حمل معه هذه المعارك القانونية القديمة وأضاف إليها تهديدًا جديدًا بأن الدولة نفسها قد تدخل على خط المواجهة. فبينما كان في السابق رئيسًا سابقًا يرفع دعاوى شخصية، أصبح اليوم رئيسًا فعليًا يملك أدوات تنفيذية واسعة، وهو ما يثير خشية جدية من أن تتحول الخصومة مع الإعلام إلى سياسة حكومية رسمية.
مخاطر تهدد الديمقراطية الأمريكية
وأثار هذا النهج أسئلة جوهرية حول مستقبل الديمقراطية الأمريكية. فهل يمكن لرئيس منتخب أن يستخدم سلطته للضغط على الإعلام من دون أن يؤدي ذلك إلى إضعاف النموذج الليبرالي الذي تفخر به الولايات المتحدة؟ وهل يصبح الصحفيون عرضة للملاحقة القانونية بتهم فضفاضة مثل "التضليل" أو "الإساءة للرئيس"؟ يرى مراقبون أن هذه التحولات قد تشكل بداية مرحلة جديدة من العلاقة بين السلطة الرابعة والسلطة التنفيذية، حيث يتراجع هامش الحرية مقابل اتساع نفوذ الدولة.
قلق متزايد في الأوساط الإعلامية
ويشعر الصحفيون في المؤسسات الكبرى بقلق متنامٍ من إمكانية تعرضهم لحملات قضائية أو إدارية تحد من عملهم. وأشار بعضهم إلى أن نبرة ترامب العنيفة ضد مراسل القنوات الوطنية الكبرى يمكن أن تشجع جماهيره المتشددة على استهداف الصحفيين، سواء بالتحريض اللفظي أو حتى بأفعال أكثر خطورة. ويؤكد هؤلاء أن حرية الصحافة لا تحمى فقط بنصوص دستورية، بل أيضًا بثقافة سياسية تحترمها، وإذا ما اهتزت هذه الثقافة، فإن النصوص وحدها لا تكفي.
معركة مفتوحة
يبدو أن الصراع بين ترامب والإعلام مرشح للاستمرار طوال فترته الرئاسية الحالية. فبينما يرى أنصاره في هذه المواجهة دفاعًا عن "الحقيقة" ضد إعلام "متحيز"، يرى خصومه أنها تعبير عن نزعة استبدادية تتعارض مع جوهر النظام الديمقراطي. وبين هذا وذاك، تبقى حرية الصحافة على المحك، ويظل العالم يتابع بقلق كيف ستتطور علاقة رئيس في السلطة مع مؤسسة إعلامية يفترض أن تراقب أداء الرئيس، لا أن تخضع له.