العالم يزداد ضعفاً بـ «عدم استقرار المكتب البيضاوي»
يبدو أن الكلمات تكون مهمة خصوصاً عندما يقولها رئيس دولة، وعلى الأخص رئيس دولة عظمى. وكان الرئيس الأميركي الأسبق، تيودور روزفلت يقول: «تحدث بنعومة، ولكن احمل عصا غليظة»، على الرغم من أنه لم يكن يتخيل أن أحد الرؤساء الذين سيأتون بعده سيثبت أنه قادر على مسح مدن بكاملها، تبعد عنه آلاف الأميال خلال نصف ساعة.
وبالطبع فإن العصا النووية غليظة فعلاً، وهي قادرة منذ عام 1945 على أن تردع معظم أعداء الولايات المتحدة، بمن فيهم موسكو وبكين وطهران وبيونغ يانغ، عن تحقيق معظم طموحاتهم، وتحفظ حلفاءها في جبهة واحدة.
أما الدول الحليفة لواشنطن وهي: اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية، فتتميز بأن كلاً منها على بُعد يوم واحد من الانضمام إلى النادي النووي، وهذا اليوم هو عندما يتوقف قادة هذه الدول عن الاعتقاد أن الرئيس الأميركي سيأتي لتقديم المساعدة لها وقت الضرورة.
المكتب البيضاوي
لهذا يخشى الكثيرون من حصول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، على فترة رئاسية ثانية، فالعالم الذي تمزقه التنافسات المتجددة للقوى العظمى، والعداوات التاريخية، يزداد ضعفاً نتيجة عدم استقرار المكتب البيضاوي الذي يتجلى في تصريحات غير مدروسة، وتهديدات في وقت خطأ و«أكاذيب صريحة»، في وقت يكافح فيه قادة سفينة الدولة الهادئون للإبحار في أمواج النظام العالمي وشعابه، إلا أنه لن يساعدهم أي قائد متقلب في أفكاره وخطاباته، خصوصاً أولئك الذين تجعل هواجسهم وتظلماتهم الشخصية وعلاقتهم غير المستقرة – في الحقيقة – الآخرين يشككون ليس فقط في سياسة أميركا، بل بشكل أكثر جوهرية في مصداقيتها أيضاً.
لذا يجب أن يكون كلام الرؤساء أكثر مصداقية، ذلك أن تصريحاتهم تحرك السوق، كما أن كلماتهم تستدعي القيام بعدوان أو بصدّه، وتُنقذ الأرواح أو تُجهز عليها.
المصداقية والتأثير
هناك قادة مخضرمون نسوا تأثير خطاباتهم، فقد وعد الرئيس الأميركي السابق دوايت أيزنهاور، الشعب الهنغاري بالدعم عندما ثار ضد السيطرة السوفييتية، لكنه لم يفعل أكثر من إطلاق الكلمات، ما جعل كثيراً من الهنغاريين يدفعون الثمن بالموت أو الهرب من ديارهم. وكان أيزنهاور يقصد الدعم المعنوي والأخلاقي، بيد أنهم اعتقدوا أنه سيرسل قوات أميركية لنجدتهم.
بدورها، كانت الكلمات مهمة في نهاية الحرب الباردة، فقد وصف الرئيس الأسبق رونالد ريغان، الاتحاد السوفييتي بـ«إمبراطورية الشيطان»، على الرغم من توصيات وزارة خارجيته التي نصحته بألا يقول لرئيس الاتحاد السوفييتي الأخير، ميخائيل غورباتشوف: «عليك أن تهدم هذا الجدار»، لأن مثل هذه الكلمات ستثير غضب الكرملين.
بدوره، تفهم الرئيس الأسبق، جورج بوش الأب، مدى تأثير التصريحات الرئاسية، لهذا بقي صامتاً أثناء سقوط جدار برلين عام 1989. وقال لمراسلة تلفزيون «سي بي إس»، ليسلي ستاهل: «أعتقد أنني لست سريع الانفعال»، لكن بوش أدرك أن الانتصار الرئاسي في تلك اللحظة الحرجة، ربما يثير ردة فعل عنيفة. وقال لمستشاريه: «لن أرقص على الجدار». وأضاف أنه يتخلى عن «النصر الرئاسي»، مقابل الحفاظ على انتصار أميركا في الحرب الباردة.
يتعين على الرؤساء الاهتمام بمستقبل بلادهم أكثر من اهتمامهم بمستقبلهم الشخصي. وقد تضررت سمعة الرئيس باراك أوباما، عندما لم يدعم «خطه الأحمر» الذي هدد سورية عند تجاوزه باستخدام الأسلحة الكيميائية في عام 2013، لكنه في النهاية استنتج أن تجنب الوقوع في مستنقع آخر في الشرق الأوسط كان أكثر أهمية من خسارته المؤقتة لهيبته.
كما أظهر قرار جو بايدن بالوفاء بوعده بإنهاء قتال الولايات المتحدة الذي دام جيلاً في أفغانستان، ثباتاً، حتى عندما كان الانتقام للخسائر التي تكبّدتها أثناء الإخلاء قد يساعده في استطلاعات الرأي، لكنه استنتج أنه من الأفضل إظهار الحكمة، بدلاً من التراجع المتهور عن قرار مدروس جيداً، على أمل إنقاذ ماء الوجه مؤقتاً.
حماية الحلفاء
لهذا فإن احتمال فوز ترامب بولاية رئاسية ثانية يبدو مرعباً، إذ إن كلماته غير المدروسة تتردد في الأذهان، وهو أول رئيس – منذ فترة الرئيس هاري ترومان، وقد يكون الرئيس الوحيد على الإطلاق – يُلقي بظلال الشك على التزام الولايات المتحدة بحماية حلفائها في حلف «الناتو».
وقد تباهى ترامب أمام زعيم أجنبي قائلاً: «هل يعني هذا أنكم لن تحمونا من روسيا في حالة لم ندفع؟ لقد قلت: هذا هو بالضبط ما تعنيه هذه الكلمة».
ولعل هذا كان تبجحاً أكثر منه ابتزازاً، وهو تكتيك تفاوضي لتشجيع الحلفاء «البخلاء» على زيادة إنفاقهم الدفاعي.
وفي كلتا الحالتين، أصبحت القصة جزءاً من ذخيرة ترامب المعتادة في التجمعات الانتخابية.
وفي الوقت نفسه، يقترب حلفاؤنا من خلق ضمانات أمنية خاصة بهم في كل مرة يفرض فيها ترامب ثغرة أخرى في درع الأمن الجماعي، بما فيها الحصول على الردع النووي.
وفي الواقع، فإن الاتفاقيات والوعود تظل في نهاية المطاف مجرد قصاصات ورق، ولا تهم إلا إذا كان القادة موضع ثقة بالالتزام بها.
وبعد عقد من تقويض التزام واشنطن بحلف شمال الأطلسي، بما في ذلك أربع سنوات كرئيس، لا يمتلك ترامب أي مخزون من المصداقية لدى شركائنا.
وخلال رئاسة ترامب الثانية، فإنه من المؤكد أن حلفاءنا الأكثر أهمية سيعززون ترتيباتهم الأمنية الخاصة دون تدخل الولايات المتحدة، وبالتالي دون إسهاماتها أيضاً. وفي نهاية المطاف، لن يشتري أحد سيارة ثانية من «تاجر» يهدد بتجاهل الضمان على سيارتك الأولى.
مراوغات ترامب
وبالطبع، فإن مراوغات ترامب المعهودة تثير الشكوك في مصداقيته، فهو سيقول أي شيء يخطر على باله، أو أي شيء يعتقد أنه سيجعله يفوز، بصرف النظر عن صدقه أو الأضرار الجانبية الناجمة عنه.
ولا يمكن الوثوق بمرشح رئاسي يرغب في الكذب بشأن المهاجرين، أو إدارة الطوارئ الفيدرالية، أو القادة العسكريين، أو المسار المتوقع للإعصار، وفي إخبار الحقيقة بشأن الأزمات المستقبلية، والأسوأ من ذلك ميله إلى التمسك بموقفه الخطأ، بدلاً من الاعتراف به.
وإذا كان شعار ترامب: «أميركا أولاً» يعني المجازفة برفاهية أطفال المدارس في ولاية أوهايو، أو الاستمرار في دفع الكذبة الكبرى التي تقول إنه فاز في الانتخابات السابقة، أو إعادة تعريف هجوم الكابيتول في السادس من يناير، باعتباره وطنية خالصة وليس عنفاً حزبياً، فلماذا يثق أصدقاؤنا الأجانب بحكمه؟.
للوطن.. لا للشخص
وفي الحقيقة، فإن ما يقوله ترامب غير مشهود في التاريخ الأميركي. لقد قال الرئيس الأسبق، فرانكلين روزفلت، إن الأميركيين سيصنعون 50 ألف طائرة سنوياً لمواجهة العدوان النازي، وعندما سأله مساعدوه من أين حصل على هذا الرقم الكبير، أجاب بأنه اخترعه، مشيراً إلى أن هزيمة الأعداء تتطلب من الأميركيين أن يفكروا في مصطلحات أوسع من أي وقت مضى.
بدروه، كذب أبراهام لنكولن أيضاً، حين أخبر قراء الصحف في عام 1862 بأنه لم يكن يفكر في تحرير شعب الكونفيدرالية المستعبد عندما قرر بالفعل القيام بذلك.
حتى العظماء يكذبون أحياناً، وإن كان ذلك لتحقيق مكاسب وطنية وليس شخصية. أما ترامب فيكذب من أجل نفسه.
وفي الواقع، فإن السياسة الدولية لا يمكن أن يشرف عليها القديسون، فنحن مجبرون على تصديق الشخص الذي وضعناه في منصب المسؤولية عن أمننا لاستخدام كلماته بحكمة. ولكن ترامب يتجنّب ما تعلمه أيزنهاور، وما استخدمه ريغان، وما ضبطه بوش، وما أدركه أوباما: ومفاده أن العصا الكبيرة للقوة الأميركية تتطلب التحدث ليس بهدوء، بقدر ما تتطلب التحدث بشكل موثوق به. الصحافي الأميركي جيفري أنجل عن «لوس أنجلوس تايمز»
• كلام الرؤساء يجب أن يكون أكثر مصداقية، فتصريحاتهم تحرّك السوق، كما أن كلماتهم تستدعي القيام بعدوان أو بصدّه، وتنقذ الأرواح أو تُجهز عليها.
• رؤساء أميركا أدركوا أن العصا الكبيرة للقوة الأميركية تتطلب التحدث ليس بهدوء، بقدر ما تتطلب التحدث بشكل موثوق به.