لطالما وجد الوزراء المتعاقبون على تدبير قطاع الصحة بالمغرب أنفسهم أمام “جيوب مقاومة” سعت جاهدة إلى التصدي لمختلف المبادرات الرامية إلى تخفيض وضبط أثمان الأدوية بالمملكة، ما دام أن هذه الأخيرة تعد الأغلى بالمنطقة المغاربية وتتجاوز في كثير من الأحيان نظيرتها بدولٍ أوروبية.
واستنفرت مبادرة وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، القاضية بإعداد مشروع مرسوم لـ”إحداث مراجعة عميقة وشاملة لنظام تسعير الأدوية وإعادة هيكلة سلاسل التموين والتوزيع، وتوسيع التصنيع المحلي”، نقابات الصيادلة .. وقد ادعت أطراف من هذه الأخيرة بأن مشروع هذا المرسوم “يهدد التوازنات الاقتصادية لصيدليات القرب ويهدد الأمن الدوائي الوطني”.
وسبق لفوزي لقجع، الوزير المنتدب المكلف بالميزانية، أن كشف عن تناقضات قطاع بيع الدواء بالمغرب، بإشارته إلى “وجود مجموعة من الأدوية التي تبقى مضاعفة بنحو 4 مرات، مقارنة مع مناطق كثيرة من العالم”، مفيدا أيضا بأن “الغاية هي أن ألاّ تكون صناعة الدواء بالمغرب استفادت من وضع احتكاري تكون فيه الأثمان غير ملائمة للتطلعات”.
حق في الحياة
كانت مهمة استطلاعية لمجلس النواب، قدمت تقريرها سنة 2009، أكدت أنه “يجب عدم التعامل مع الأدوية كغيرها من المنتجات الصناعية الأخرى؛ ذلك أن الحق في الحياة رهين بحق الحصول للخدمات الصحية وللأدوية”، مفيدة بأن “هذا الأمر لا يقبل تطبيق مفاهيم من قبيل حرية الاختيار والمنافسة وحرية الأسواق على الأدوية كما يتم تطبيقها على غيرها من المنتجات الصناعية”.
كما أن إشكاليات الدواء بالمغرب لا تقف عند الغلاء فقط؛ بل تشمل كذلك التوزيع والتموين، إذ يُسجل نقصٌ في أصناف مختلفة منه؛ وهو واقع ناتج عن جنوح الشركات المُصنّعة نحو التعامل مع هذه الأصناف بـ”منطق الربح”، مقررة بذلك “التخلي عن مواصلة توزيعها وتوفيرها للمغاربة”.
وتُعمق هذه التناقضات “جراح” المرضى المغاربة، لاسيما الذين يعانون من أمراضٍ مزمنة، باستحضار رفض “الضمان الاجتماعي” تعويض المؤمّنين لديه عن مجموعة من الأدوية باهظة الثمن؛ لتَحشُرَ بذلك كل هذه الوقائع الصيادلةَ والشركات المصنّعة في “قفص الاتهام”.
“ليّ الذراع”
بوعزة الخراطي، رئيس الجامعة المغربية لحقوق المستهلك، قال إن “الكل يؤكد على الأسعار القياسية والمرتفعة التي تعرفها الأدوية بالمغرب. وسبق لنا أن ناقشنا الموضوع مع الحسين الوردي، الوزير الأسبق للصحة”.
وأوضح الخراطي، في تصريح لهسبريس، أن ” النقاش منصب حاليا فقط على ما يتعلق بجودة الأدوية، فما بالك بالجودة التي لا تقارن بالجودة الموجودة بالخارج”، متابعا: “المستهلك هو الحلقة الأضعف والمتضرر من هذا الواقع؛ فقد توصلنا، مؤخرا، بشكايات مستهلكين تفيد باختفاء أزيد من 600 دواء من صيدليات القرب بالبلاد”.
ولدى حديثه عن “جيوب مقاومة على مستوى هذا القطاع”، شرح المتحدث أن المسؤول الرئيسي عن غلاء الأدوية بالمملكة هي “الشركات المصنعة التي تقوم بجلب المواد الأولية من الخارج؛ الأمر الذي يطرح تساؤلات حول دوافع رغبة نقابات الصيادلة في معاكسة إرادة الدولة وليّ ذراعها”.
كما افترض “لجوء الشركات المصنّعة والموزعة بالمملكة إلى دفع نقابات الصيادلة للمواجهة المباشرة مع وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، ما دام أن أثمنة البيع على مستوى الصيدليات والهوامش تبقى محددة”، مؤكدا أن “تحرك الوزارة في هذا الشق، وبحزمٍ، يظل ضروريا ومطلوباً، ضدا في أي معاكسة أو مقاومة يمكن أن تصطدم بها”.
وتابع: “مسؤولية الشركات المصنّعة ثابتة، سواء فيما يتعلق بالأثمنة الباهظة للأدوية المُنتَجة رغم انخفاض أسعار المواد الأولية على الصعيد العالمي، أو فيما يتعلق بتموين السوق الوطنية بها، حيث تأكد لنا التخلي عن إنتاج عدد من التشكيلات الدوائية بحجة أنها لا تضمن مردودية جيدة”.
وتأسّف رئيس الجامعة المغربية لحقوق المستهلك لـ”لوضعية التي يعيشها قطاع صناعة الدواء بالمغرب، ما دام أنه لا يتم ضمان حق المواطن في الوصول إلى حاجياته من الدواء، لاسيما إذا تعلّق الأمر بعلاج أمراض مزمنة”، مشيرا إلى أن “واقع الاستثناء الذي تعيش على وقعه أثمنة هذه اللوازم الصحية بالمغرب ثابتٌ ومؤكد”.
إشكاليات مثبتة
محمد اعريوة، نائب رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة، رمى بالمسؤولية في ملعب الوزارة والحكومة ككل، معتبرا أن “التصريح الأخير للوزير المنتدب المكلف بالميزانية، والذي أكد خلاله تضاعفَ أسعار الأدوية بالمغرب 4 مرات، يعتبر دليلا كافيا على حجم الإشكاليات المطروحة في هذا الإطار”.
وجاء في إفادة عريوة لهسبريس أن “وقوف العاملين في هذا القطاع أمام مبادرات وزارة الصحة والحماية الاجتماعية كان واردا ومُنتظرا، اعتبارا لوجود منطق ربحي ثابت لدى هؤلاء؛ مما كان يستدعي التأسيس لسياسة دوائية ناجعة تجعل المغرب، على الأقل، في مصاف دول المنطقة”.
وشدّد المتحدث أيضا على أن “المريض بالمغرب يبقى في صلب إشكاليات القطاع، حيث يتحمّل التداعيات لوحده. ولذلك، فتضخّم أسعار الدواء بالبلاد يعاكس الأوراش المتعلقة بالحماية الاجتماعية ويخلق إشكالية أخرى متعلّقة برفض صناديق الضمان الاجتماعي تعويض المؤمّنين بشأن أدوية بعينها”.
كما ذكر بأن الوقائع المثبتة على مستوى هذا القطاع، وبشهادة الحكومة نفسها، “تقتضي المرور نحو الإصلاح المباشر، بوضع الفاعلين الصيدلانيين والمصنّعين أمام مرآة الحقيقة، ما دام أن الاستمرار في هذا الطريق يظل مكلّفا بالنسبة للمواطن ويناقض الحق في الصحة والحياة”.