أخبار عاجلة
خدعة "الماس المصنع" تجتاح العالم -

عيون وقحة لا تنام

عيون وقحة لا تنام
عيون وقحة لا تنام

في فترات متفرقة وعلى امتداد القرن الماضي وبداية هذا القرن خبر المجتمع المغربي مجموعة من الموضات، منها ما عمر طويلا نسبيا ومنها ما كان صموده محدودا أمام المستجدات المتلاحقة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، أقبل الكثير من المغاربة المجايلين لأبي وأمي ـ وهم في كامل قواهم العقلية ـ على تزويد أسنانهم أو جزء منها بتيجان من الذهب أو الفضة واعتبروا ذلك قيمة مضافة لمعايير الجمال الإنساني، ويوم يصل علماء الأركيولوجيا والمنقبون عن الكنوز إلى قبور هؤلاء سيكون بمقدورهم انتشال كميات لا يستهان بها من المعدنين النفيسين المدفونين إما بهدف إحالتها على متاحف بعينها أو لغاية بيعها بسوق المجوهرات أو لصناع الأسنان الراغبين في إعادة تركيبها بأفواه النوستالجيين.

وتزامنا مع هذه الحقبة التاريخية لم يخل أي بيت مغربي تقريبا من صور فريد الأطرش وأخته اسمهان إضافة إلى الرسوم التقريبية للنبي سليمان عليه السلام.

وفي عهد لاحق، عقد عدد كبير من المغاربة الذكور ـ وأنا واحد منهم ـ اجتماعا طارئا وموسعا خرجوا منه بتوصية واحدة: ضرورة تثبيت صفيحة بأسفل كعب الحذاء بهدف التميز أولا، وتأكيد الحضور أثناء المشي ثانيا، ومنع التآكل السريع للكعب ثالثا. كان الطلب كبيرا على هذه الصفائح التي لم يختلف شكلها كثيرا عن شكل مثيلاتها المثبتة بحوافر الخيول والبغال والحمير. دامت هذه الموضة مدة لا يستهان بها إلى أن اختفت من تلقاء نفسها في ظروف غامضة.

وقبل حوالي ثلاثين سنة من الآن تم تجهيز معظم الحافلات البرية بجهاز فيديو، الأمر الذي مكن المسافرين من طرد ملل السفر بأن منحهم فرصة متابعة فيلم أو أكثر… بذوق السائق أو مساعده طبعا. للأسف، لم يدم هذا الصنف من التسلية طويلا إذ سرعان ما أحيلت أشرطة “VHS” على مقبرة التاريخ. وعلى الرغم من هذا التحول المفاجئ راوحت الشاشات مكانها لكنها ظلت بلا حياة إلى يومنا هذا.

وفي الفترة نفسها، تقريبا طفت إلى السطح ظاهرة “التيليبوتيك”، وهي ظاهرة أسدت خدمات جليلة لعموم المواطنين ومكنت القائمين على “التيليبوتيكات” من الاطلاع عن طريق السمع المتواصل على اهتمامات المغاربة وهمومهم، إلا أن بزوغ فجر الهاتف المحمول أرغم المستثمرين في المجال على إغلاق دكاكينهم بشكل تدريجي بعد سنوات قليلة فقط من الكسب السهل والسريع.

أما اليوم، وإلى جانب استمرار موضة جمع “طباسل الطاوس”، فيبدو أننا نعيش أيضا العصر الذهبي لما يصطلح عليه بـ “كاميرات المراقبة”. إنها الموضة الجديدة التي اكتسحت البلاد طولا وعرضا في وقت قياسي وتبناها العديدون واعتبروا وجودها ضرورة لا محيد عنها، بل هناك من لا يستطيع أن يصدق بأن البشرية عاشت لآلاف السنين محرومة من هذا الاختراع المذهل. فأينما يممت وجهك ـحتى بالأحياء الشعبية والهامشية وبالقرى الهشة والمتخلفةـ كن دائما على استعداد للابتسام للكاميرا، وإياك أن تتصرف على نحو يشذ عن السلوكات السليمة من قبيل خدش صباغة السيارات أو رمي الأزبال أو الكتابة على الجدران أو المتاجرة في الممنوعات أو التحديق في الجمال أو التحرش بالنساء. لقد أصبحت حرية البشر مكبلة بشكل غير مسبوق.

في بداية الأمر ـ وهذا ما يحصل في الغالب – يتم التعامل مع هذه التقنية على أساس أنها مجرد لعبة فترى مستعمليها منهمكين في الاستمتاع بتتبع المارة وهم في أوضاع غير سوية أو مخجلة أو بصدد القيام بحركات تفضح حميميتهم. وهناك من عديمي الضمير من لا يكتفي بالتهكم مما يراه، بل ويعمد أيضا من وقت لآخر وفي غياب الوازع الديني والأخلاقي إلى تحويل بعض المشاهد الملتقطة إلى فيديوهات بنية تعميمها لتمكين التافهين من أمثاله بالقارات الخمس من إبداء الإعجاب بها أو السخرية منها أو الاستغراب لها أو التعليق عليها. وكما هو الشأن بالنسبة لباقي اللعب، لا بد أن يفتر الحماس المرتبط باستعمال هذه “اللعبة” مع مرور الوقت (دون أن يعني ذلك بالضرورة دخول تسويقها مرحلة الكساد) ليكتشف المرء في مرحلة لاحقة بأن الترويج لهذه الموضة الجديدة لم يكن في الأصل سوى محاولة إضافية لتكريس العادات الاستهلاكية وخلق فرص اقتصادية وتجارية جديدة.

وإذا كانت هذه الكاميرات قد خففت فعلا العبء عن الأجهزة الأمنية بكل تلاوينها وسهلت مهامها في تعقب المجرمين وفي جمع المعطيات وتوثيق الحوادث، على اختلاف درجة خطورتها وخاصة بالمرافق العامة وبالفضاءات المفتوحة التي تستقطب الناس بأعداد كبيرة، فما الذي يبرر اللجوء إليها بعمارة تتوفر على بواب مثلا أو بشوارع يتناوب على تأمين أمنها حراس الليل والنهار أو ببلدات وقرى تعج بالمخبرين والجواسيس الهواة؟

وعلى افتراض أنك اكتشفت بأن أحد المارة قد تجرأ أثناء نومك لدوافع بيولوجية قاهرة على التبول على سور بيتك الخارجي وأن الكاميرا لم ترحمه بأن وثقت سلوكه المشين، كيف سيكون رد فعلك يا ترى؟ هل ستربط الاتصال بجهة من الجهات الأمنية حتى تنتقل على وجه السرعة إلى مسرح الجريمة للقيام بالمتعين؟ هل تتوقع أن تقوم الشرطة أو الدرك الملكي بتعميم مذكرة بحث وطنية في محاولة لإلقاء القبض على الجاني وتسليمه للعدالة لتقول كلمتها في حقه؟ هل الإنتربول سيدخل على خط التحقيقات هو الآخر إذا اتضح بأن صاحب الفعلة أفلح في مغادرة التراب الوطني؟ وفي حال تم تحديد مكانه بإحدى الجزر بالمحيط الهادي أو الهندي هل ستتولى السلطات المحلية ترحيله حتى يتسنى لسلطات بلده إرغامه على إعادة تمثيل جريمته وتعطير مسقط بوله؟

وعلى افتراض أن سيارتك تعرضت للسرقة، هل ستعول على الكاميرا لمساعدتك على استردادها؟ بعبارة أخرى، هل تعتقد بأنه بمقدور هذه العيون الاصطناعية النزول من برجها العاجي والركض وراء السارق للإمساك به وتسليمه “حيا” إلى المصالح الأمنية؟ ما الفائدة إذن من اقتصار دور كاميرات المراقبة على إخبارك بأن جريمة سرقة قد اقترفت على بعد سنتميترات من باب مسكنك من لدن شخص يشبه في شكله العام معظم خلق الله؟

وعلى افتراض أن الكاميرا كانت حاضرة بكل حواسها عندما ودع خطيب ابنتك خطيبته على أعتاب بيتك بوضع قبلة على شفتيها، فهل ستضيف إلى عار اللقطة عار الاصطدام بنجلتك المصونة وخطيبها المندفع المتهور مع إمكانية فسخ الخطوبة؟ أليس الجهل بالشيء أفضل من العلم به أحيانا؟

وعلى افتراض أن التسجيلات المخزنة تفيد بأن جارك العازب طرق باب شقتك في غيابك لسبب ما (ربما فعل ذلك فقط بهدف طلب شيء من الكمون أو طمعا في الحصول على حبة من أحد مسكنات صداع الرأس)، فهل ستعتبر ما جرى حدثا عاديا أم أنك ستعطي الفرصة للأوهام والوساوس لتفعل بك ما تشاء؟

هناك سيناريوهات كثيرة أخرى كلها توحي بأن الناس لا يزالون مسكونين ـ حد الهوس أحيانا ـ بهاجس التعرف على كل ما يجري بمحيطهم (تحركات أهل الجوار وزوارهم وتجمعات الأطفال ومغامرات المراهقين وحركة شاحنات الرحيل وعربدة السكارى والمنحرفين…) لكن بطرق حديثة تنطوي على وقاحة صارخة.

لقد أضحى التشريع المناسب في المجال حاجة ملحة، إذ لا يعقل أن تتابع انطلاقا من مطبخك أو غرفة نومك أو مرحاضك كل ما يعرفه زقاقك أو إقامتك السكنية من حركات وسكنات، لا لشيء إلا لتزجية الوقت أو لإشباع رغبة مرضية لديك في التحسس والتجسس بل والتلصص أيضا، وخاصة إذا كانت أخلاقك وتركيبتك النفسية والتربية التي تلقيتها لا تؤهلك للتحلي بما يكفي من الشجاعة والشهامة للتدخل عند الاقتضاء بهدف الحيلولة دون حدوث جريمة أو كارثة على وشك الوقوع.

لا أملك من الشك أدناه بأن كاميرات المراقبة تعتبر أداة ردع فعالة وقد تفيد فعلا في التحقيقات في حال وقوع جرائم معينة. لكن، كم هو عدد الجرائم التي لولا الاستعانة بتسجيلات الكاميرات ما كان للغزها أن يفك أبدا؟ وهل عاش المحققون الجنائيون في عجز تام قبل أن يخرج هذا الجهاز العجيب للوجود؟ وهل تعتقد، عزيزي القارئ، بأن المجرمين المتمرسين تعوزهم الحيل للالتفاف على المستجدات الإلكترونية المصممة خصيصا لمنع الجريمة؟

ليس هناك ما يثبت بأن وجود عشرات الكاميرات بملاعب كرة القدم قد وضع حدا لظاهرة الشغب الرياضي، وبأن تثبيتها بمحاور طرقية عدة قد عالج معضلة حوادث السير أو ظاهرة الاعتداء على مستعملي الطرق، وبأن تركيبها زاد من منسوب طمأنينة المواطنين وسكينتهم، وبأن الساكنة السجنية قد تراجع حجمها بشكل ملحوظ مذ أصبح الناس في مرمى عيونها وبأن جدل الاكتظاظ والعقوبات البديلة قد انتهى. إن الشخص العازم على ارتكاب جناية أو جنحة أو مخالفة أو فعل لا أخلاقي لن يعير لوجود الكاميرات أدنى اهتمام ولن يسمح لأي عائق بأن يقف في طريقه للوصول إلى غايته، وهذا أمر مثير للسخرية ما دام الردع في هذه الحالة يتوقف عند التوثيق فقط وما دام الهدف المنشود ـ أي تحقيق نسبة صفر جريمة ـ يظل بعيد المنال.

نعم لنصب الكاميرات لاعتبارات ترتبط بحماية الأرواح والممتلكات والتجهيزات الخاصة والعامة ولكن دون مبالغة وبشكل سري إلى حد ما مع توفر إمكانية التدخل السريع قبل فوات الأوان، أما استعمالها من باب الاستئناس لا غير مع إعطاء الانطباع بأننا نعيش ببلد لا تختلف أوضاعه الأمنية في شيء عما هو حاصل بالصومال وهايتي وشمال مالي وشرق جمهورية الكونغو الديموقراطية فهذا يضعنا أمام حالة طوارئ كاذبة.

نعم أيضا لاستغلال هذه الوسيلة لتتبع ما يحدث بمرافقنا ومنشآتنا الاستراتيجية ولحماية حدودنا… لكن لا يعقل أن يعمد صاحب محلبة مثلا إلى تثبيت أربع كاميرات داخلية وثلاث كاميرات خارجية لا لشيء إلا للتأكد من أن عمليتي الأداء و”إرجاع الصرف” قد تمتا بالفعل وعلى نحو موثق وسليم أو لإثبات عدد حبات البيض المسلوق وقطع “الحرشة” المستهلكة في حال وقوع نزاع بين الحلاب وأحد زبنائه!!!!!!!

وكان الله في عون من يمارس عملا مؤدى عنه وهو يعلم بأن رئيسه أو رب عمله له دائما بالمرصاد انطلاقا من حاسوبه بمكتبه أو من محموله ببيته أو بأية نقطة جغرافية داخل الوطن أو خارجه.

مقارنة ختامية: لقد أضحت عدسات كاميرات المراقبة أشبه بعيون القطط. الفرق الوحيد على ما يبدو هو أن عدد زوايا النظر لدى هذه الحيوانات الأليفة يفوق بكثير عدد مثيلاتها بالكاميرات المعمول بها حاليا (بما فيها تلك المنتمية إلى الصنف الذكي)… ولحسن حظنا أن القطط لا تتكلم، ولو أنعم الله عليها بلسان ناطق لتسببت في مآس عائلية واجتماعية لا حصر لها!

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق الانتهاء من طلاء 175 منزلًا بمحيط معبد إسنا.. واستكمال أعمال المرافق تمهيدًا لتركيب الإنترلوك
التالى الزمالك يعتزم إنهاء عقد نجم الفريق قريباً.. والحل في عرض خليجي