أخبار عاجلة
ليبيا تعلن ترحيل مئات السودانيين -
الجيش يتعاقد مع التونسي الحباسي -

قراءة في مؤشر النخبة المغربية 2025..

قراءة في مؤشر النخبة المغربية 2025..
قراءة في مؤشر النخبة المغربية 2025..

في عالم تتسابق فيه الدول نحو بناء اقتصاد المعرفة وتعزيز فعالية مؤسساتها، جاء تقرير مؤشر جودة النخبة (EQx) لسنة 2025 ليسلط الضوء على أزمة عميقة تعيشها النخب في عدد من البلدان، وعلى رأسها المغرب. إن هذا المؤشر لا يقيس فقط حجم النفوذ؛ بل يقيّم مدى قدرة النخب على إنتاج القيمة، وتوجيه السلطة نحو خدمة الصالح العام، وتحقيق التنمية والاستقرار. وهنا، يثار سؤال أساسي: هل لا تزال النخب المغربية أداة للتغيير، أم أنها تحولت إلى عقبة بنيوية نحو التقدم والتحول الديمقراطي؟

المعطيات التي يقدمها التقرير بشأن المغرب مقلقة للغاية، إذ جاء في المرتبة الـ124 في “الإبداع والتجديد”؛ ما يعكس محدودية الاستثمار في الابتكار وتراجع الوظيفة المعرفية للنخب. كما حلّ في المرتبة الـ122 في “هيمنة الشركات”؛ مما يدل على تغوّل مصالح المال في غياب قواعد الشفافية والمنافسة. أما في محور “السيطرة على الدولة”، فقد جاء المغرب في المرتبة الـ112، في إشارة واضحة إلى تداخل خطير بين السلطة والثروة.

إن هذه الأرقام ليست مجرد تصنيفات تقنية؛ بل هي تشخيص دقيق لبنية معطوبة تُنتج نخبا غير قادرة على القيادة، وعاجزة عن الدفع في اتجاه تحول ديمقراطي حقيقي. أكثر من ذلك فإن هذه النخب تُكرّس الانفصال المتزايد بين الدولة والمجتمع، وتُضعف ثقة المواطنين في المؤسسات التمثيلية. وربما ما يكرس الأزمة أكثر فأكثر هو فقدان النخب لاستقلاليتها، سواء الفكرية أو المؤسساتية؛ فلم تعد تلعب أدوارها التاريخية في إنتاج الأفكار، وأصبحت أداة لإعادة تدوير الخطاب الرسمي وتبرير السياسات القائمة.

وفي هذا السياق، تحولت الجامعات ومراكز الأبحاث والمجالس المنتخبة إلى فضاءات للولاء والتموقع، لا للتفكير أو صناعة البدائل. أما الأحزاب السياسية، فقد عجزت عن تجديد نخبها، وكرّست بنيات تقليدية مغلقة. ومع غياب التداول الداخلي، وهيمنة الوجوه نفسها، تم تهميش الكفاءات الشابة والمستقلة، في مقابل صعود “مرشحي المال” أو ما يُعرف بـ”مول الشكارة”؛ فتحول المشهد الحزبي إلى سوق مغلق، تُباع فيه التزكيات وتُشترى الولاءات، بما يُفرغ السياسة من مضمونها ويُحوّلها إلى وسيلة للامتياز لا أداة للإصلاح.

ولعل الأدهى من ذلك هو ما تكشفه الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية بشأن المستوى التعليمي والثقافي لمن يديرون الشأن المحلي أو يمثلون الأمة؛ فعدد كبير من المنتخبين لا يتجاوز مستواهم الدراسي التعليم الإعدادي، وبعضهم بالكاد يجيد القراءة والكتابة.

هذه المعطيات لا تضر فقط بجودة الأداء المؤسساتي؛ بل تشوّه صورة المغرب في التصنيفات الدولية المتعلقة بالحكامة والتمثيل السياسي، وتعكس أزمة حقيقية في آليات إنتاج النخبة السياسية. كما تكشف عن عجز الدبلوماسية الحزبية في أداء دورها الأساسي في تجديد الكفاءات وتأهيل المنتخبين. والنتيجة هي برلمان عاجز، ومجالس جهوية بلا رؤية واضحة، ونخب تدير الواقع أكثر مما تسعى إلى التغيير.

في هذا السياق، لم تعد الانتخابات وسيلة لبناء تمثيلية ديمقراطية حقيقية؛ بل تحولت إلى معارك عددية مفتوحة على أبواب الفساد السياسي والمالي. وقد ساهمت الحكومة الحالية في تفاقم هذا الوضع، حيث عززت تداخلا غير مسبوق بين النخبتين السياسية والاقتصادية، مكرّسة منطق الريع السياسي بدلا من مكافحته، ومؤسسة لنخبة برجوازية غير وطنية تزداد ثراء في زمن الأزمات.

فبدلا من قطع منابع الفساد، صار النفوذ الاقتصادي وسيلة للوصول إلى مراكز القرار السياسي، وتحولت السياسة إلى ساحة لحماية الامتيازات الممنوحة للنخبة الاقتصادية، بدلا من أن تكون أداة لخدمة المصلحة العامة، وغالبا ما يكون العكس هو الواقع.

وفي قلب هذا المشهد القاتم، وبدلا من أن تؤدي النخبة المثقفة دورها في تصحيح الأوضاع، وتهيئة فضاء لتكوين النخب وتأطير المجتمع، أصبحت هي الأخرى أسيرة حسابات الولاء والانتماء. لقد تحولت الجامعة المغربية إلى نقطة انهيار إضافية في المنظومة الشاملة لإنتاج النخب؛ فمنذ أن تم منح صلاحيات تعيين المسؤولين الجامعيين لرئيس الحكومة بعد دستور 2011، أصبحت الكفاءة معيارا ثانويا مقارنة بالولاءات الحزبية. وهكذا، فقدت الجامعة أكثر فأكثر دورها الطليعي وأصبحت عاجزة عن إنتاج نخب حقيقية مؤهلة. وبالتالي، تراجعت النخبة الحقيقية أمام هذا الغزو السياسي للجامعة، وتراجعت معها القيم الأصيلة التي كانت الجامعة تحمل لواءها، لتتحول الأخيرة من فاعل رئيسي إلى مفعول به، أو كما ينبغي أن تكون.

في سنة 2016، كتبتُ مقالا بعنوان “سنة النكبة في مسار النخبة السياسية بالمغرب”، اعتبرت فيه أن المشهد السياسي بلغ حينها مستوى غير مسبوق من التردي؛ لكن، وبعد أقل من عقد من الزمن، يتّضح أن الوضع لم يتوقف عند حدود تلك “النكبة”، بل ازداد سوءا، وزاد معه المشهد قتامة وتعقيدا.

إن غياب الإرادة الحقيقية للإصلاح تزامن مع تداخل مرعب وغير مسبوق بين مصالح النخب السياسية والاقتصادية، فيما يشبه زواجا وظيفيا يفرغ العمل العام من مضمونه، ويكرّس منطق الامتياز على حساب المصلحة العامة. وفي مقابل هذا المشهد المتداخل، تمّ تغييب الدور الفعلي للنخبة المثقفة، التي تراجعت قدرتها على التأثير، وأصبحت على هامش دوائر القرار. وإذا كانت مؤشرات(EQx) 2025 قد دقت ناقوس الخطر، فإن الوقائع الداخلية تُثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الأزمة ليست تقنية ولا ظرفية؛ بل بنيوية عميقة، تستوجب مراجعة شاملة لمن يُنتج القرار، ومن يمتلك النفوذ، ومن يملك حق التمثيل.

إن الخروج من هذا النفق الوجودي لا يتحقق عبر تجميل النصوص القانونية أو إعادة ترتيب الوجوه في مشهد قديم، بل يمر عبر قطيعة معرفية مع التصورات التقليدية لمفهوم النخبة ووظيفتها في المجتمع. إن النخبة، في جوهرها، ليست امتيازا يُمنح؛ بل مسؤولية تُكتسب بالاستحقاق والمعرفة وخدمة الصالح العام. إن تجديد آليات إنتاج النخبة لا يمكن أن ينبني على منطق الغلبة أو الولاء؛ بل على معيار الكفاءة كمرآة للجدارة، وعلى الاستقلالية كضمانة للأمانة الفكرية والأخلاقية، وحدها هذه الرؤية الفلسفية العميقة لماهية النخبة ولوظيفتها يمكن أن تعيد ترميم جسور الثقة بين المواطن ومؤسسات تمثله، سواء كان داخل الوطن أم في امتداداته الرمزية بالخارج.

من المهم التأكيد على أن تحسين مؤشرات النخبة لا يشكل هدفا في حد ذاته، ولا ينبغي أن يُفهم كمجرد علامة على الرفاهية أو التفوق الاجتماعي؛ بل على العكس تُعتبر هذه المؤشرات أدوات محورية وأساسية لتصحيح وتحسين مؤشرات أخرى أكثر تعقيدا وكآبة، مثل مؤشر الفساد مؤشر التنمية البشرية ومؤشرات العدالة في توزيع الثروات. إن النخبة التي تتسم بالكفاءة والشفافية والتمثيل الحقيقي قادرة على دفع الإصلاحات اللازمة التي تخلق بيئة تنموية عادلة ومستدامة، وتقضي على أشكال التمييز والفساد التي تعيق تقدم المجتمع. لذا، فإن مؤشر النخبة هو بمثابة بوابة تُفتح نحو إعادة هيكلة شاملة، تعيد الاعتبار للقيم الاجتماعية والسياسية، وتسهم في بناء مجتمع أكثر عدالة وازدهارا.

لقد سقطت شرائح واسعة من النخبة المغربية في فخ التكيف مع البنية القائمة التي كرستها بعض الأحزاب السياسية، متخلية عن أدوارها التاريخية في النقد، والاقتراح، والاستقلالية؛ وهو ما يطرح سؤالا عميقا حول الحدود الفاصلة بين الإرادة الفردية والبنية المؤسسية التي تُعيد إنتاج منطق الاستمرار بدل القطع. فهل نحن أمام نخب عاجزة، أم منظومة مندمجة تُفرغ النخبة من معناها؟

أستاذ باحث في تدبير الموارد البشرية والذكاء الاستراتيجي – جامعة القاضي عياض، مراكش

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق بث مباشر مباراة بروسيا دورتموند ومونتيري في كأس العالم للأندية
التالى الاتحاد يطلب ضم موهبة الأهلي ضمن صفقة مروان عطية