أخبار عاجلة
التنويع الاقتصادي في الخليج وتعزيز النتائج -

"الگراب".. هل صمت الناقوس؟

"الگراب".. هل صمت الناقوس؟
"الگراب".. هل صمت الناقوس؟

في نهاية كل أسبوع، وكلما سمحت الظروف دأبتُ على القيام بجولة صباحية بين أزقة المدينة القديمة بالرباط، رفقة صديق لي حيث ننطلق عادة من “باب الأحد”، لنتيه في الزمن قبل المكان؛ وهو طقس بسيط نمارسه منذ سنوات، أحيانا بحثا عن سكينة، أو عن أثر في ذاكرة تُقاوم النسيان. وأحيانا أخرى، بحثا عن الصدى بين الأزقة العتيقة، لقادِمَيْنِ من دار “الضمانة”.

لكن هذا الأسبوع، وجدت نفسي أمام مشهد لم يكن عابرا؛ ففي زاوية الطريق وقف رجل تجاوز الستين يحمل فوق رأسه “ترازة” وهي قبعة مزركشة بإبداع راق – من رسومات وألوان – بلباسه التراثي الأحمر، وبَلْغَة مغربية ملونة وجرسه النحاسي اللامع، رناته تعود بك إلى أيام الطفولة.

“الگراب” واقف هنا، لا ليسقي المارة كما تعوّدنا على ذلك؛ وإنما ليستجدي عطفهم وأريحيتهم.

كانت “”الگرْبَة” أو “السقاية” المصنوعة من جلد الماعز والمعلّقة على جنبه فارغة. لا أثر للماء بها، ولا للرطوبة الرمزية التي ميّزت هذه الشخصية عبر العصور.

كان صامتا، بخجل وانكسار، يمد يده بدل أن يوزع كؤوس الماء النحاسية. لسانه لم يكن ينادي “برد أعطشان” وإنما “شي صدقة لله”…

“الگراب” ليس مجرد عامل موسمي أو شخصية فولكلورية تظهر في المهرجانات؛ بل هو رمز مغربي بامتياز، وحامل لذاكرة ممتدة في التاريخ. فقد ظلّ يشكّل جزءا من النسيج الاجتماعي للمغرب، خاصة في المدن العتيقة والأسواق الشعبية، حين كان “الگرابة” يُكلفون بسقي الناس في المساجد والساحات. وبذلك، فهم يعتبرون من “أهل الخير”؛ بل وتُنسب إليهم في بعض الوثائق السلطانية أدوار في تقديم الماء للمسافرين والزوار في مواسم الحج والمناسبات الدينية.

وكان من المعتاد، في مغرب ما قبل الاستعمار، وخلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أن يُموَّل عمل ” الگراب” من قبل الأوقاف أو المحسنين، كصدقة جارية. ولم يكن غريبا أن نجد (الگرابة) في مداخل المدن وأبوابها، أو في المواسم، حيث يشكّلون جزءا من طقس الضيافة المغربي ومظهرا من مظاهر الكرم الجماعي.

ومع الوقت، تطوّر “الگراب” من “ساقٍ” إلى حامل لذاكرة جماعية، لا نجد شبيها له في باقي الثقافات. ففي المشرق، كان السقّاء شخصا بسيطا دون طقوس أو رمزية. وفي الهند القديمة، اندثرت مهنة “السقاة الجوالين”.

لكن خصوصية “الگراب” المغربي تتمثل في تحويل وظيفة بسيطة إلى طقس بصري واجتماعي متكامل. شخصية احتفالية، تُجسّد حضورا جماعيا أكثر من كونها مهنة فردية، وترتبط في المخيال الشعبي بالبركة والطهارة والخدمة العامة.

وما زاد من وقع هذا المشهد الذي صادفته بـ“باب الأحد” وأكيد صادفتموه في مواقع أخرى هو أنه أثناء زيارة سابقة للمقر الضخم لوزارة الخارجية الأمريكية في واشنطن، استوقفتني وزملائي بالطابق الخامس لوحة فنية من الحجم الكبير تكريما لبلادنا يتوسطها “الگراب” في كامل أناقته كرمز مغربي حاضر في قلب عاصمة القرار السياسي العالمية، بينما أصبح هنا متسوّلا مهملا.

لقد آن الأوان لمراجعة هادئة وعميقة لمقاربتنا للتراث الشعبي، ليس لحمايته من الزوال فحسب؛ بل لمنحه حياة جديدة داخل مجتمع يتغيّر بسرعة، عوض تجميده في المتاحف أو استهلاكه في المواسم السياحية فقط. ويمكن إدماج “الگراب” بذكاء في التعليم، والسياحة الثقافية، والاقتصاد الاجتماعي، والصناعات الإبداعية.

فـ”الگراب” يمكن أن يتحوّل إلى مرشد ثقافي أو وسيط تربوي أو عنصر تفاعلي في فضاءات الأطفال والمهرجانات، بدل أن نراه صورة باهتة على هامش المدينة.

إن التراث ليس موضوعا للماضي، بل أفقٌ مفتوحٌ للمستقبل. و”الگراب” يمكن أن يتحوّل من رمز مهدد إلى قوة ناعمة تصنع الفخر، وتحفّز الإبداع، وتؤسس لسياسة ثقافية وازنة تؤمن بأن الهوية ليست ما نحتفظ به فقط… بل ما نحياه ونبنيه كل يوم.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق إسماعيل نصر الدين يتقدم بأوراق ترشحه لخوض انتخابات الفردي بمجلس الشيوخ 2025 بالقاهرة
التالى المركزي السعودي يرخص لـ "عون الرائدة" بمزاولة نشاط التمويل الاستهلاكي المصغر