في زمن تتسارع فيه التحوّلات القيمية وتزداد تأثيرات الوسائط الرقمية، أصبحت مسألة “القدوة” من أكثر الإشكاليات تعقيدًا، إذ لم تعد تُستمد بالضرورة من الشخصيات القريبة أو المرجعيات التقليدية، بل باتت تُشكَّل في كثير من الأحيان عبر منصات التواصل حيث تبرز نماذج لا ترتكز على القيم أو الإنجازات الفعلية، بل على الشهرة والظهور المكثف.
من هذا المنطلق يتجدد النقاش حول تراجع تأثير القدوة التقليدية مقابل صعود رموز افتراضية تفتقر أحيانًا إلى العمق القيمي، كما تُطرح تساؤلات حول العوامل النفسية والاجتماعية، التي تدفع الشباب إلى اعتبار بعض الشخصيات المشهورة على مواقع التواصل قدوة، في ظل الحاجة إلى إعادة بناء هذا المفهوم بما يواكب تحوّلات العصر ويحافظ في الآن ذاته على القيم الأساسية.
قدوة رقمية بديلة
هشام العفو، متخصص نفساني ورئيس رابطة متخصصي الصحة النفسية والعقلية بالمغرب، قال إن “من بين أسباب تراجع تأثير القدوة التقليدية تغيّر آليات التعلق les mécanismes d’attachement، إذ طور الشباب روابط عاطفية مع شخصيات افتراضية مختلفة ومغايرة، وربما تحقق بعض إشباعاتهم وحاجياتهم الأساسية”.
وأوضح العفو، في تصريح لهسبريس، أن “النمذجة، حسب نظرية التعلم الاجتماعي، تحتاج للقرب والتكرار، وهما غائبان في العلاقات التقليدية، كما أن الحاجة للاستقلالية في مرحلة المراهقة تدفع إلى رفض السلطة التقليدية من باب التمرد على الأنماط الجاهزة، بينما التحفيز الخارجي المفقود يقلل جاذبية هذه النماذج”.
وأشار إلى أن “القدوات الرقمية أًصبحت تُشبع الحاجات النفسية الأساسية، منها الانتماء من خلال المجتمعات الافتراضية، التي لم تعد تخضع لمعايير أخلاقية أو اجتماعية، ومسألة الكفاءة عبر المحاكاة السهلة، لهذا ظهرت بعض السلوكيات والمشاهد الدخيلة والغريبة عن المجتمع المغربي، إضافة إلى مسألة الاستقلالية بالاختيار الحر خارج جميع النظم والضوابط الأخلاقية والدينية والمجتمعية”.
واستحضر العفو “نظرية التعزيز الفوري التي تفسر الإدمان على هذا المحتوى، والتي تعتبر أن الدماغ يحصل على هرمون الدوبامين بانتظام، مما يعزز لحظات النشوة في التواصل الرقمي، إضافة إلى مسألة الهوية الاجتماعية التي كانت تتشكل عبر التقليد والخضوع للنظم والمعايير، أما القدوات الرقمية فهي تقدم نماذج سهلة التحقيق ظاهريًا خارج جميع الضوابط، مما يعزز الثقة بالنفس الوهمية”.
وأكد الأخصائي النفسي أن “بناء قدوة فعّالة يتطلب تطبيق مبادئ علم النفس الإيجابي، بالتركيز على نقاط القوة والإنجازات الحقيقية، أهمها استخدام التعزيز التدريجي لبناء السلوكيات المرغوبة، والنمذجة التفاعلية التي تسمح بالمشاركة الفعلية، إضافة إلى العلاج السردي، الذي يساعد في صياغة قصص ملهمة وقابلة للتطبيق، كما يجب مراعاة نظرية الأجيال لفهم خصائص كل جيل، وتوظيف التكنولوجيا العصبية لفهم تأثير المحتوى على الدماغ وتحسينه”.
وشدد على ضرورة “إعادة تشريح وفهم الخصوصيات الفئوية داخل كل جيل وكيف أصبحت تتحقق الهويات لديهم، ومحاولة تقريب الفئات من الواقع أولا داخل عمليات التنشئة الاجتماعية، وهذا ما يمكن أن يحقق إعادة بناء القدوة وتحقيق التفاعل الإيجابي خارج دائرة التبعية والإلزام”.
تلاشي القيم الأصيلة
مصطفى السعليتي، أستاذ علم النفس الاجتماعي، قال إن “هذا الموضوع يجعلنا نتساءل عن دور وأهمية الآليات أو الميكانيزمات التي استُعملت منذ سنوات عديدة في التنشئة الاجتماعية داخل المجتمع المغربي، من خلال ترسيخ مجموعة من القيم، وتقمّص بعض النماذج المهمة في الحياة”، مضيفا أن المدرسة والأسرة والمجتمع بصفة عامة لعبت دوراً مهماً في ترسيخ هذه القيم، وتقمّص النماذج التي لها مكانة مهمة على مستوى الذكاء والتحكم في التفكير اجتماعياً، وفي التمثلات الاجتماعية التي تجعلها قدوة”.
وأبرز المتحدث ذاته أن “القدوة تمثّل الإنسان الذي يتبنى مجموعة من القيم والمبادئ والسلوكيات التي تجعله إنساناً مهماً، خصوصاً ذلك الإنسان الذي يتسم بصفات متميزة من الناحية العلمية والأخلاقية والاجتماعية. لكن، مع الأسف، يعيش المجتمع اليوم حالة من الاضمحلال على مستوى هذه الوسائل والميكانيزمات، وفشلاً في التنشئة الاجتماعية، التي لم تعد قادرة على إعادة هذا النوع من الإنتاج”.
وقال السعليتي، في تصريح لهسبريس: “ما نعيشه اليوم هو بديل سلبي بكل المقاييس لأن هذه التنشئة الاجتماعية لم تستطع مواكبة التحولات والتأثيرات الخفية واللا مباشرة واللا شعورية، التي تسعى إلى استبدال ثقافة أصلية مهمة وقيم حقيقية بثقافة أخرى تافهة على مستوى الأذواق والفن والمستوى الاجتماعي، وحتى على مستوى الرموز والأشخاص”.
وعن أسباب هذا التراجع، أشار الأستاذ الجامعي إلى “صناعة التفاهة”، موضّحا أن “هذا الأمر مرتبط بمنح التقدير والقيمة الكبيرة لبعض الأشخاص أو المجموعات التي تتبنى هذه التفاهة، التي تم تصنيعها فعلًا من خلال توفير فضاء إعلامي واسع، سواء عبر التلفزيون أو وسائل التواصل الاجتماعي، يُسمَح فيه لهؤلاء بفرض أنفسهم ليُعتَبروا بذلك نموذجاً للنجاح، خصوصاً أن أصواتهم وصورهم تتكرر باستمرار في هذا الفضاء”.
وأكد أن “هناك صوراً تقدم لهؤلاء على أنهم النموذج الحقيقي للنجاح بسبب الإقبال الجماهيري الكبير عليهم، مما يجعل لهذا تأثيراً بالغاً”، منبها إلى أن “القوة الجماهيرية، والاستحواذ على الفضاء الإعلامي، والتمتع بما يشتهونه من امتيازات مادية، كلها عناصر تكرس هذا الوضع، وتُظهر ارتباطه العميق بمجتمع الاستهلاك، الذي لا يمكن للإنسان فيه إثبات وجوده إلا من خلال ما يملكه من مال وقدرته على الاستهلاك”.
وأبرز السعليتي أن “ثقافة الاستهلاك هذه تجعل التنافسية بين النظام القيمي والثقافي القديم وبين ما هو سائد حالياً منافسة غير متكافئة”، مضيفا أن “التباهي ينجح ويفرض نفسه لأن ما يهم الشباب اليوم ليس النجاح العلمي أو الثقافي أو الأخلاقي، بل النجاح في التباهي والمظهر الخارجي، والانتماء إلى طبقة تملك وسائل مادية معينة”.
وختم الأستاذ الجامعي توضيحاته بالإشارة إلى أن “الأسرة والمؤسسات المسؤولة عن التنشئة الاجتماعية في الماضي أصبحتا عاجزتين عن مواجهة هذا الواقع، وعن خوض المنافسة مع أشكال التفاهة، التي تملك آلياتها ووسائلها، وتجعلها نموذجاً وقدوة داخل المجتمع المغربي، وفي مجتمعات أخرى أيضاً”.