في خضم تصاعد الأزمات الجيوسياسية والاقتصادية، يعود الحديث بقوة عن المعادن الثمينة، وعلى رأسها الذهب والفضة، بوصفها ملاذات آمنة أثبتت جدارتها عبر العصور، وهو ما تؤكده تقارير حديثة، من بينها تقرير موسّع نشرته مجلة فورشن الأمريكية. فبينما تتراجع الأصول التقليدية تحت وطأة الاضطرابات، ترتفع جاذبية الذهب والفضة كأدوات تحوّط استراتيجية، قادرة على حماية الثروات من التضخم، وتذبذب العملات، والتقلبات المفاجئة في الأسواق.
الذهب: مخزن تاريخي للقيمة وسط تقلبات الأسواق
لطالما شكّل الذهب مخزنًا للقيمة منذ آلاف السنين، لا سيما في فترات التضخم أو التراجع الحاد في القوة الشرائية للعملات الورقية. وبصفته أصلًا لا يرتبط مباشرة بالأسهم أو السندات، فإنه يتحرك غالبًا في اتجاه معاكس لها، مما يجعله أداة مثالية لتنويع المحافظ الاستثمارية.
كما تعزز حيازات البنوك المركزية الكبرى من موثوقيته، حيث تواصل هذه المؤسسات المالية الاحتفاظ بالذهب ضمن احتياطاتها الاستراتيجية. وتزداد وتيرة الإقبال عليه في لحظات الركود، النزاعات التجارية، أو التوترات السياسية، في ظل إيمان راسخ بدوره كحصن ضد الأزمات.
التوترات بين إيران وإسرائيل تعيد الزخم للذهب
التصعيد العسكري الأخير بين إيران وإسرائيل، والذي ترافق مع قصف أمريكي مباشر لمنشآت نووية إيرانية، زاد من زخم الذهب عالميًا، بحسب تحليل نشره بنك أوف أمريكا.
ويُتوقع أن يصل سعر الأوقية إلى 4000 دولار خلال العام المقبل، في ظل عوامل متعددة تتجاوز الجغرافيا السياسية، منها عجز الموازنة الأمريكية، وعودة المخاوف من الاستدانة المفرطة، واحتمالات نشوب حرب تجارية جديدة في حال أعيد انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وكشف مجلس الذهب العالمي أن البنوك المركزية في الاقتصادات الناشئة تشتري الذهب بوتيرة أسرع من نظيراتها في الاقتصادات المتقدمة، ما يُظهر تحوّلًا استراتيجيًا في إدارة الاحتياطيات على مستوى العالم.
الذهب الصناعي يصعد إلى الواجهة
تشترك الفضة مع الذهب في كونها ملاذًا آمنًا، لكنها تحمل أيضًا طابعًا صناعيًا قويًا، نظرًا لاستخداماتها الواسعة في قطاعات التكنولوجيا، الطاقة الشمسية، والإلكترونيات. هذا المزج بين الطلب الاستثماري والصناعي يمنح الفضة خصوصية فريدة.
وفي ظل السياق الحالي، ارتفعت أسعار الفضة إلى أكثر من 37 دولارًا للأوقية، وهو أعلى مستوى منذ عام 2012، وفق موقع بيزنس إن كاميرون. ومع تقلص الفجوة النسبية مع الذهب، يتوقع أن تصل إلى 40 دولارًا في غضون 12 شهرًا، وربما 46 دولارًا في الربع الثالث من هذا العام، في حال استمرت المؤثرات التصعيدية.
عجز في المعروض يعزز الارتفاع
تواجه سوق الفضة عجزًا في المعروض منذ عام 2021، ويتوقع معهد الفضة تسجيل نقص عالمي قدره 149 مليون أوقية خلال العام الحالي.
وتكتسب الفضة جاذبية لدى صغار المستثمرين كونها أقل تكلفة مقارنة بالذهب، إلى جانب الطلب المرتفع عليها في التحول نحو الاقتصاد الأخضر والتقنيات النظيفة، ما يمنحها دعمًا طويل الأجل.
محددات القوة
تعتمد قوة الذهب والفضة كملاذات آمنة على ثلاثة أعمدة رئيسية:
- الندرة ومحدودية المعروض الطبيعي.
- السيولة العالية في الأسواق العالمية، مما يتيح تداولها بسهولة.
- الاستقلال عن سياسات البنوك المركزية، كونها لا ترتبط مباشرة بالسياسات النقدية.
هذه العوامل تجعل منها أدوات مثالية لتحصين المحافظ ضد الهزات المالية أو الانكماشات المفاجئة.
قفزت أسعار الذهب إلى أكثر من 3443 دولارًا للأوقية، في ظل تصاعد التوترات بين إيران وإسرائيل، وتراجع مؤشرات التضخم في الولايات المتحدة، ما عزز التوقعات بخفض الفائدة من جانب الاحتياطي الفيدرالي، وفقًا لموقع إيكونوميك تايمز.
كما ساهم ارتفاع أسعار النفط بأكثر من 10% في دعم الذهب، من خلال تغذية مخاوف التضخم وتوجه المستثمرين نحو أصول الأمان.
ورغم أن محللي بنك جوليوس باير يرون أن الصدمات الجيوسياسية لا تؤدي عادة إلى زيادات دائمة، فإن التوقعات لا تستبعد استمرار الصعود في أسعار كلا المعدنين مع استمرار الأزمات.
موجات عدم اليقين تدعم الملاذات الآمنة
تشير مصادر أفريقية إلى أن التحولات العنيفة في أسواق الموارد، والمخاوف من عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، تُعزز من توجه المستثمرين نحو الذهب والفضة. ففي عالم يعج بالتقلبات، يظل هذان المعدنان خيارًا استراتيجيًا للحفاظ على الثروة وتقليل المخاطر.
وبينما تتجه الأنظار إلى معارك الموازنة الأمريكية، وانعكاسات التوتر في الشرق الأوسط، وتعقيدات المشهد الاقتصادي العالمي، يواصل الذهب والفضة تأكيد موقعهما في صدارة أدوات التحوّط المالي، في وقت لا يبدو أن الأزمات فيه على وشك الانحسار.