في وقت دقت فيه وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة ناقوس الخطر بشأن تفاقم إشكالية النفايات، واعتبرتها تحديا قادرا على إسقاط حكومات، تعالت أصوات خبراء مغاربة تطالب بإعادة النظر جذريا في النموذج الوطني لتدبير هذه الإشكالية البيئية، التي لم تعد مرتبطة فقط بالنظافة، بل تهدد الصحة العامة، وتقوّض صورة البلاد لدى مواطنيها وزوارها على السواء.
ودق خبراء ناقوس الخطر، داعين إلى مراجعة شاملة لنموذج التدبير القائم في معظمه على مقاربات تقنية تفتقر إلى البعد التربوي والسلوكي والثقافي.
مسؤولية النظافة
أكد عبد الرحيم الكَسيري، المنسق الوطني للائتلاف المغربي من أجل المناخ والتنمية المستدامة، أن أزمة النفايات “لم تعد قضية نظافة سطحية فقط، بل قضية حضرية وسياحية وثقافية واقتصادية”.
وأضاف الكسيري، ضمن تصريح لهسبريس، أن “النفايات تؤثر بشكل مباشر على أول انطباع يكوّنه السائح أو الزائر عن المدينة، وتخلق تلوثا بصريا وروائح كريهة تفقد المجال جاذبيته، وتضعف ارتباط المواطن بمحيطه”.
وأوضح أن المغرب رغم تحقيقه بعض التقدم في تدبير القطاع عبر تفويضه للقطاع الخاص، إلا أن هذا النموذج يبقى مكلفا جدا وغير فعّال على المستوى البنيوي. وقد بلغت كلفة البرنامج الوطني لتدبير النفايات المنزلية، الذي انطلق سنة 2008، حوالي 21 مليار درهم، دون أن يوازي ذلك تحسن ملموس في الوعي المجتمعي أو في ثقافة النظافة.
وحمّل الكسيري جزءا كبيرا من المسؤولية إلى غياب التربية البيئية، مشيرا إلى ما وصفه بـ”ثالوث التغيير” الذي ينبغي أن يُطبّق، وهو: تشريعات صارمة، وحملات توعية منتظمة ودائمة، وتربية بيئية مؤسساتية تبدأ من المدرسة.
وحذّر من استمرار المقاربة الموسمية التي تكتفي بحملات مناسباتية في يوم البيئة أو خلال فصل الصيف، دون استراتيجية مستدامة تغير السلوك اليومي للمواطنين.
النفايات والموارد
الكسيري أشار إلى أن الطريقة التي يتم بها التعامل مع النفايات في المغرب ما زالت تعكس تصورا قديما وسلبيا، حيث تُعتبر النفايات “مشكلات يجب التخلص منها”، بدل أن يُنظر إليها باعتبارها “موارد قابلة للتثمين”.
وأبرز أن المواد العضوية، التي تمثل حوالي 35% من النفايات المنزلية، يتم خلطها بالماء وإهمالها، رغم أنه يمكن استخدامها في إنتاج السماد الطبيعي أو في توليد الطاقة الحيوية كما تفعل دول عديدة.
ودعا إلى اعتماد نظام الفرز من المصدر، أي فصل النفايات في الحاويات منذ البداية، ثم تثمينها في محطات محلية، صغيرة ومتوسطة، موزعة على أساس جغرافي عادل. كما شدد على ضرورة إشراك المواطنين في هذا الورش من خلال تحفيزهم على الالتزام بالفرز، عبر مكافآت رمزية أو مادية، قبل فرض غرامات تدريجية على المخالفين.
“السلسلة الغذائية”
علي شرود، خبير في المناخ والبيئة، يرى بدوره أن تدبير النفايات في المغرب يتم بطريقة “عشوائية وغير علمية”، خاصة من حيث اختيار مواقع المطارح وأساليب الطمر والحرق.
وأشار شرود، ضمن تصريح لهسبريس، إلى أن معظم النفايات البلاستيكية، على سبيل المثال، تحرق في الهواء الطلق، ما ينتج غازات سامة ويسبب أضرارا مباشرة على البيئة والسكان القريبين من هذه النقاط السوداء.
كما نبّه إلى خطر النفايات الطبية والصيدلية التي ترمى دون معالجة، مثل الإبر وبقايا الأدوية والكحول، ما قد يؤدي إلى انتشار أمراض معدية يصعب التحكم فيها.
وقال: “نحن أمام تهديد صامت للسلسلة الغذائية؛ لأن تلوث التربة والمياه يؤثر مباشرة على المحاصيل الزراعية، التي قد تسقى بمياه ملوثة أو تنمو في أرض ملوثة، ثم تصل إلى موائد المواطنين”.
وحذّر شرود من وجود نفايات قابلة للاشتعال، مثل قنينات العطور التي تحتوي على غازات، التي يمكن أن تشعل حرائق بمجرد تعرضها للحرارة، وهو ما يحدث أحيانا في المطارح غير المؤمّنة.
“رهان متعدد الأبعاد”
اتفق الكسيري وشرود، ومعهما الوزيرة بنعلي، على أن ملف النفايات في المغرب تجاوز مرحلة الإنذار، وأصبح أولوية وطنية تهم المجال البيئي، والسلامة الصحية، والعدالة المجالية، والمكانة السياحية للمدن.
وأكد المتدخلون الثلاثة أن التدبير التقني وحده لا يكفي، بل يجب أن يندمج في رؤية شمولية تجمع بين: الاستثمار في البنيات التحتية والفرز من المصدر، والتربية والتحسيس داخل المدارس والإعلام، وتوفير موارد بشرية وتقنية مؤهلة، وضمان حكامة جماعية شفافة.
وفي الوقت الذي تخصص فيه مليارات الدراهم سنويا لهذا الورش، يظل التحول الحقيقي رهينا بإصلاح السلوك الجماعي، وتغيير النموذج الذهني الذي يرى في النفايات مجرد “أوساخ”، لا فرصة إنتاجية واقتصادية قابلة للتثمين.
التسيير والتثمين
شدد عبد الرحيم الكسيري على أن الاقتصاد الدائري لا يمكن أن يتحقق بدون عدالة بيئية ومحاسبة دقيقة للجهات المنتجة، موضحا أن النموذج الحالي غير منصف وغير مستدام.
وقال في هذا الصدد: “ما لا يعقل هو أن مواطنا بسيطا، ينتج كميات محدودة من النفايات المنزلية، يُطالب بتحمل الكلفة نفسها التي تفرزها مؤسسات سياحية أو مطاعم أو متاجر كبرى، التي تُراكم أرباحا كبيرة. المفروض أن تتحمل هذه الجهات كلفة تدبير نفاياتها، وفق مبدأ ‘المسؤولية الموسعة للمنتج'”.
وذكر الكسيري أن هذا المبدأ منصوص عليه في القانون رقم 29.12 المتعلق بتدبير النفايات، الذي يعتمد مبدأ “الملوّث المؤدّي”، أي إن كل جهة تُحدث ضررا بيئيا يجب أن تؤدي مقابله، سواء تعلق الأمر بالإنتاج، النقل أو الطمر.
وقال: “لا يُعقل أن نترك الشركات تُراكم الأرباح من خلال بيع منتجات مغلّفة بمواد ملوِّثة، بينما يتكفل دافعو الضرائب بتكلفة جمعها وتنظيفها وإعادة تدويرها. يجب أن يشمل ثمن المنتج تكلفة التخلص منه منذ البداية، لأن هذا جزء من عدالة بيئية تضمن أن من يلوث هو من يؤدي، لا أن تظل الفاتورة معلّقة في عنق المواطن العادي”.
وتبقى النفايات مرآة تعكس علاقة المجتمع بمحيطه، ودرجة وعيه البيئي، وقدرته على التعايش مع التحولات المناخية والاقتصادية التي تفرض نماذج مستدامة في الاستهلاك والإنتاج.
وفي غياب رؤية وطنية متكاملة تخضع تدبير النفايات للتقييم الدوري والمساءلة والمواكبة، سيبقى المواطن المغربي شاهدا على مطارح مكشوفة، وروائح كريهة، وأزمات موسمية، في وقت تحوّل فيه العديد من الدول نفاياتها إلى وقود وثروة.