في خطوة إستراتيجية ضخمة تعكس طموح المملكة العربية السعودية للتحول إلى قوة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، أطلقت المملكة خلال شهر مايو الماضي، شركة (هيوماين) Humain، وهي شركة مملوكة بالكامل لصندوق الاستثمارات العامة السعودي، وتتمثل مهمتها الأساسية في تطوير حلول وتقنيات الذكاء الاصطناعي المبتكرة وإدارتها، والاستثمار بنحو إستراتيجي في منظومة هذا القطاع الحيوي والمزدهر.
وقد كشف طارق أمين؛ الرئيس التنفيذي لشركة (هيوماين) خلال لقاء مع صحيفة (فايننشال تايمز)، أن الشركة لديها خطط طموحة لجذب استثمارات من كبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية، كما تخطط لإطلاق صندوق لرأس المال الجريء بقيمة تبلغ 10 مليارات دولار، وتأتي هذه الخطوات في إطار قيادة الشركة لجهود المملكة الرامية إلى أن تصبح مركزًا عالميًا للذكاء الاصطناعي.
وأفاد طارق أمين، خلال اللقاء أيضًا، أن (هيوماين) تجري حاليًا محادثات مكثفة مع عدة شركات تقنية أمريكية بارزة بهدف إيجاد شريك إستراتيجي، وتشمل هذه الشركات أسماء كبيرة مثل: (OpenAI)، وشركة (xAI) التابعة لإيلون ماسك، بالإضافة إلى شركة رأس المال الجريء الشهيرة (أندريسن هورويتز) Andreessen Horowitz.
ولم يحدد أمين هوية الشريك الأمريكي المحتمل بنحو صريح، لكنه أشار إلى أن المفاوضات جارية مع جميع هذه الأطراف، مؤكدًا أن بعضها سيكون من الأسماء الكبيرة في قطاع مراكز البيانات، وأن الإعلان سيكون قريبًا جدًا.
هيوماين تتبنى إستراتيجية شاملة للريادة في الذكاء الاصطناعي:
تتبنى شركة (هيوماين) إستراتيجية شاملة تهدف إلى تغطية جميع جوانب صناعة الذكاء الاصطناعي، بدءًا من الاستثمار المباشر، ومرورًا بتطوير بنية تحتية عالمية المستوى، ووصولًا إلى تصميم الرقاقات الإلكترونية، وتُعدّ هذه الإستراتيجية الشاملة لا مثيل لها تقريبًا خارج نطاق عدد قليل جدًا من شركات التكنولوجيا الكبرى في الولايات المتحدة والصين، التي استغرقت سنوات، إن لم يكن عقودًا، لبناء أعمالها وخبراتها التقنية المتكاملة.
ولتجسيد هذه الرؤية، ستطلق الشركة صندوق (هيوماين فينتشرز) Humain Ventures، الذي يمثل ذراع رأس المال الاستثماري لها، بقيمة مبدئية تبلغ 10 مليارات دولار خلال صيف هذا العام، وسيُخصص للاستثمار في الشركات الناشئة الواعدة في الولايات المتحدة وأوروبا ومناطق مختارة في آسيا.
وفي ظل هذا المشهد، تنظر شركات التكنولوجيا الأمريكية بنحو متزايد إلى دول الخليج وصناديق ثروتها السيادية القوية كمصادر حيوية للاستثمار، ويجري المسؤولون التنفيذيون في قطاع التكنولوجيا الأمريكي محادثات مكثفة مع مسؤولين إقليميين حول فرص الاستثمارات وجمع رؤوس الأموال، مما يعكس الأهمية المتزايدة للمنطقة كمساهم رئيسي في تمويل الابتكار التكنولوجي العالمي.
بنية تحتية عملاقة لمراكز البيانات:
تضع شركة (هيوماين) نصب عينيها بناء واحدة من أكبر البنى التحتية لمراكز البيانات المخصصة للذكاء الاصطناعي في العالم، وتسعى الشركة إلى الحصول على شريك تكنولوجي أمريكي بحصة ملكية في هذا القطاع.
وتشمل الأهداف الطموحة تحقيق قدرة ضخمة في مراكز البيانات للذكاء الاصطناعي، إذ تخطط الشركة للوصول إلى قدرة تبلغ 1.9 جيجاواط بحلول عام 2030، ومن ثم التوسع لتصل هذه القدرة إلى 6.6 جيجاواط بعد أربع سنوات من ذلك التاريخ، وهو مشروع تقدر تكلفته بالأسعار الحالية للسوق بنحو 77 مليار دولار. وسيجعلها هذا الطموح من بين أكبر مشاريع البنية التحتية العالمية للذكاء الاصطناعي.
وتهدف (هيوماين) بحلول عام 2030 إلى معالجة ما يصل إلى 7% من عمليات التدريب العالمية (تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي) وعمليات الاستدلال (استجابات النماذج لطلبات المستخدمين). وتعليقًا على هذه الأهداف قال طارق أمين: “العالم متعطش للقدرة الضخمة في مراكز البيانات للذكاء الاصطناعي، وأعتقد من يصل إلى خط النهاية أولًا، سيضمن حصة جيدة من السوق”.
ولتحقيق ذلك، ستبدأ المرحلة الأولى من خطة (هيوماين) لبناء مجمعات ضخمة لمراكز البيانات بمحطة تبلغ قدرتها 50 ميجاواط تستخدم 18,000 شريحة من شرائح إنفيديا، وتأمل الشركة في تشغيل هذه المرحلة العام المقبل.
وتتضمن الخطة المستقبلية توسيع هذه القدرة على مراحل لتصل إلى 500 ميجاواط، وهو ما سيتطلب نحو 180 ألف شريحة من إنفيديا، ويُظهر حجم هذا المشروع طموح (هيوماين) في المنافسة على الساحة العالمية، إذ إن مجمع (كولوسوس) للذكاء الاصطناعي التابعة لشركة (xAI) قد بُني باستخدام 100 ألف وحدة معالجة رسومات من إنفيديا، في حين من المتوقع أن يضم مركز بيانات ستارجيت الأمريكي العملاق 400 ألف شريحة من طراز GB200 من إنفيديا.
وتُشير هذه الأرقام إلى أن (هيوماين) تسعى إلى بناء بنية تحتية للذكاء الاصطناعي على نطاق عالمي، مما يعزز مكانة المملكة العربية السعودية كلاعب رئيسي في هذا المجال.
شراكات إستراتيجية وصفقات مليارية:
منذ إطلاقها، أبرمت شركة (هيوماين) بالفعل صفقات بقيمة تبلغ 23 مليار دولار مع مجموعات شركات تكنولوجية أمريكية رائدة، تشمل: إنفيديا، و(AMD)، وأمازون ويب سيرفيسز (AWS)، وكوالكوم.
وتشمل هذه الصفقات مشروعًا مشتركًا بقيمة تبلغ 10 مليارات دولار مع (AMD)، بهدف بناء قدرة حاسوبية ضخمة للذكاء الاصطناعي تصل إلى 500 ميجاواط، وستشكل هذه القدرة الحاسوبية أساسًا متينًا لتطوير حلول الذكاء الاصطناعي المبتكرة ونشرها على نطاق واسع.
كما تستثمر (هيوماين) 5 مليارات دولار أمريكي مع شركة أمازون ويب سيرفيسز (AWS)، لإنشاء (منطقة ذكاء اصطناعي) AI Zone، فريدة من نوعها في المملكة، ستحتضن تحت مظلتها بنية تحتية تقنية متخصصة ومتقدمة للغاية في مجال الذكاء الاصطناعي، وتشمل هذه البنية خوادم فائقة التطور مزودة بأحدث أشباه الموصلات، وشبكات (UltraCluster) الفائقة السرعة لتسريع عمليات تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي ومعالجتها بكفاءة غير مسبوقة.
علاوة على ذلك؛ تستثمر (هيوماين) ملياري دولار مع شركة كوالكوم لتطوير مراكز البيانات وقدرات تصميم الرقاقات الإلكترونية في المملكة، وبموجب هذه الصفقة، ستنشئ كوالكوم مركزًا لتصميم الرقاقات الإلكترونية في الرياض سيوظف 500 مهندس.
ومع ذلك، أكد أمين أن (هيوماين) ليس لديها خطط حالية لدخول مجال تصنيع الرقاقات الإلكترونية. ومن المتوقع أن تبدأ عملية شراء الرقاقات من الشركات الأمريكية خلال الثلاثين يومًا القادمة، مع تفاؤل بدعم إدارة ترامب لهذه المبيعات، خاصة بعد أن ألغت واشنطن آخرًا قاعدة من عهد بايدن كانت تقيد بيع رقاقات الذكاء الاصطناعي لدول المنطقة.
بيئة تنظيمية وجاذبة للاستثمار:
تدرك (هيوماين) أهمية الشركاء والمناخ الاستثماري، وأشار أمين إلى أن شركاءها في رأس المال يقدمون أكثر من مجرد تمويل، مؤكدًا الأهمية البالغة للمنظومة الأمريكية التقنية ودقة الاختيار في الشراكات.
ولمعالجة المخاوف المتعلقة بالخصوصية والأمن، ستسمح (هيوماين) بجرد فوري أو تمكين العملاء من التدقيق اللحظي لكيفية استخدام معلوماتهم ومعالجتها. كما يُتوقع أن تصدر الرياض تشريعات تجعل مراكز البيانات خاضعة لقوانين بلد منشأ شركة الذكاء الاصطناعي المستأجرة، وهي خطوة تهدف إلى تلبية متطلبات سيادة البيانات العالمية.
ولجذب مراكز البيانات الضخمة المتخصصة في الذكاء الاصطناعي إلى المملكة، تقدم الرياض إعانات كبيرة على أسعار الكهرباء، التي تُعدّ من بين الأدنى عالميًا، وقد طُبق هذا النموذج بالفعل مع شركة (Groq)، التي تبني ما يوصف بأكبر مركز بيانات للاستدلال في العالم داخل المملكة، والذي بدأ كمشروع مشترك مع (أرامكو الرقمية) تحت إشراف طارق أمين – الذي كان سابقًا الرئيس التنفيذي لشركة (أرامكو الرقمية) الذراع التقنية لشركة (أرامكو) – ولكن من المرجح أن ينتقل هذا المشروع إلى (هيوماين)، إذ تسعى الرياض إلى دمج أصولها الرئيسية في مجال الذكاء الاصطناعي ضمن الكيان الجديد.
وقد وافقت الرياض في فبراير على توسعة هذا المشروع بقيمة قدرها 1.5 مليار دولار في المنطقة الشرقية، إذ حصلت (هيوماين) على مساحة تبلغ 2.3 ميل مربع في مدينة صناعية، يمكن أن تستضيف 10 محطات بقدرة قدرها 200 ميجاواط لكل منها، مع خطط لتطوير مجمع أكبر بثلاث مرات في الرياض.
تحديات وأولويات إستراتيجية:
تأتي هذه الخطط الطموحة في وقت تواجه فيه الحكومة السعودية وصندوق الاستثمارات العامة ضغوطًا ناجمة عن انخفاض أسعار النفط وحجم الالتزامات المالية الضخمة للعديد من المشاريع العملاقة قيد التنفيذ. ومع ذلك، يُعدّ الذكاء الاصطناعي مجالًا ذا أولوية قصوى للمملكة.
وعند سؤاله عن تأثير انخفاض أسعار النفط في خطط إنفاق (هيوماين) أجاب طارق أمين بسؤال بلاغي: “السؤال الذي يجب أن نطرحه هو: هل يمكنك كدولة أن تفوت هذه الفرصة؟”، مؤكدًا عزم (هيوماين) التحرك بسرعة لتأمين حصة كبيرة من السوق العالمية.
لذلك يمثل إطلاق شركة (هيوماين) بهذه الاستثمارات الضخمة والشراكات الإستراتيجية إعلانًا واضحًا لعزم المملكة العربية السعودية على أن تكون لاعبًا رئيسيًا ومؤثرًا في مستقبل الذكاء الاصطناعي العالمي، وأن تقود التحول نحو اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط